المادة    
  1. العطف بالترقي من عيسى عليه السلام إلى الملائكة

    قال: [ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر قوله تعالى: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ))[النساء:172]، وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه] يعني: أن الملائكة هنا أفضل من المسيح عليه السلام، كيف ذلك؟! قالوا: [لأنه لا يجوز أن يقال: لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك ولا الشرطي أو الحارس وإنما يقال: لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير] يستنكف: يستكبر، ويتمنع ويترفع، والمعنى: ولا من هو أفضل منه يستنكف عن ذلك، فضلاً عن أن يستنكف هو، وهذا واضح، قالوا: [ففي مثل هذا التركيب يرتقى من الأدنى إلى الأعلى] والكلام من ناحية اللغة نسلم بصحته يقول: [فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام، ثبت في حق غيره؛ إذ لم يقل أحد: إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض] كان القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله ممن خاض في هذه المسألة ونقل عنه شيخ الإسلام أنه كان يقول: إن هذا الكلام ساذج، والعطف لا يقتضي تفضيل المعطوف على المعطوف عليه، لكن في الحقيقة فإن كلام القاضي أبي يعلى غير ظاهر، بل إن هذا أسلوب بليغ، والعطف هنا بالفعل فيه ترقٍ من الأدنى إلى الأعلى.
    ونحن نستبعد كلام القاضي بأن الكلام على العطف ساذج.
    فمعنى كلامهم أنه إذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام، فإذاً هم أفضل من جميع الأنبياء، ومن جميع الصالحين، إذ لم يقل أحد: إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض، فهم إذاً أفضل من جميع بني آدم، هذا وجه كلامهم.
    قال: [أجاب الآخرون بأجوبة، أحسنُها، أو من أحسنها: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه] أي: فلا نزاع أن هذه الصفات في حق الملائكة المقربين أوفر وأكثر منها في عيسى عليه السلام، [وفي العبودية خضوع وذل وانقياد] فالعبودية هي: الخضوع، والذل، والانقياد، ووقوع الانقياد والخضوع من الأدنى أقرب، وهو من الأعلى قوة وضخامة أبعد، فلهذا لن يستنكف المسيح عليه السلام أن يكون عبداً لله، ولا من هو أقوى منه وأعظم منه في الخلقة، ولديه دواعي الاستكبار المشار إليها، وهم أقوى وأعظم من المسيح عليه السلام، وهو معنى قولهم: [وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها، ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً] أي: الملائكة [ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه].
    ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً بعض الصفات، وهي كون عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى بإذن الله، وهذه من عظيم ما اختص الله تعالى به عيسى عليه السلام، ويقول شيخ الإسلام: "وعيسى عليه السلام ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، واطلاع الملائكة على ما يدخر وما يؤكل أسهل أيضاً، ولا شك أن الله تعالى أعطاهم القدرة على الاطلاع أكثر، وعيسى عليه السلام خلق من أم بلا أب، والملائكة خلقوا من غير أم ولا أب، إذاً فمن يقول: إن الله قد اختص عيسى عليه السلام بهذه الصفات وفضله على الملائكة، فيقال له: فالملائكة فيها أكمل وأعلى درجة، ومن هنا فالكلام صحيح، والتعبير صحيح عما يفيده العطف من الترقي صحيح، ووجه تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر أن كثيراً من الناس حتى في وقتنا هذا يدعون أنه إله، ويعبدونه من دون الله؛ وذلك أنهم حين رأوا فيه ما اختص به من الصفات قالوا: لا يحيي الموتى إلا من كان إلهاً، وكذلك من كان يعلم الغيب، ويخبر عما في البيوت، فكأنه تعالى يقول: إن هذا المتصف بهذه الصفات، لن يستنكف عن عبادة الله سبحانه وتعالى ولا من هو أعظم منه خلقة وقوة، فلا يحق لأحد أبداً أن يفعل ذلك، وكل من عرف الله سبحانه وتعالى فلن يستنكف عن عبادته مهما كان قربه من الله، ومهما كانت درجته عالية، ومهما أعطي وميز به من الصفات والخلال.
  2. نفي الرسول صفة الملائكية عن نفسه

    قال: [ومنه قوله تعالى: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50] ] الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كثر عليه اقتراح الكفار وتعنتهم بإنزال الآيات والإتيان بالخوارق التي تضطرهم إلى الإيمان فأمر بأن يقول: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ...))[الأنعام:50]، وهم قد اتهموه أيضاً حيث لم يجعل له الله تعالى قصوراً وجنات تجري من تحتها الأنهار، وقالوا: فكيف يختار ويصطفى من قبل الله، وليس له ما يفضل به على العالمين، من مال وجاه؟ وكان لابد أن يرسل ملكاً لا إنساناً!!
    وقد كان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير، ويأكل كما يأكلون، ولذلك قالوا ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7]؟! وقالوا: لا يمكن أن يكون رسولاً مرسلاً من عند الله، وهذه من تلبيسات الشيطان، ومن تلبيسات زعمائهم عليهم أيضاً، وهم منذ القدم يريدون أن يكون الرسول ملكاً وذلك غير ممكن عقلاً قال الله تعالى: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ))[الأنعام:9] فلو جاءهم ملك في صورته وهيئته الملائكية لقالوا: لا يمكن لنا أن نعبد الله ولا أن نجتنب الحرام لأننا لسنا كهيئتك فنحن أضعف وأميل إلى الشهوات.. بخلافك!! وإذا جاءهم في هيئة بشر فقال: أنا ملك، لكن على هيئة بشر، لقالوا: كذبت، وما يدرينا أنك ملك، وكذلك ويقدر أن يدعيها أي مدعٍ من الكاذبين، فيقول: أنا ملك ولكني في صورة بشر، فاسمعوا لي، وإن قال: أنا لست بملك أبداً وإنما أنا بشر مثلكم، فسنرجع إلى القضية الأساس، وهي أنهم يريدون ملكاً، فلا فائدة من هذه الاعتراضات.
    الشاهد أنهم لما اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته، وطلبوا منه ما يعجز عنه، ولذا أمره الله أن يجيب عليهم بقوله: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50].
    هذا والله قد أعطى نبيه مفاتيح خزائن الأرض، كما في الحديث الصحيح، ووعده وأصحابه بكنوزكسرى وقيصر، وقد وقع ذلك للصحابة بفضل الله تعالى؛ لكن خزائن الله ليست عنده، يأخذ منها ويدع كما يشاء، حتى يعطي الكفار ليؤمنوا به.
    وقوله: ((وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ))[الأنعام:50] يُكَذَّب الله ويأمر رسوله بتكذيب من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وأن عنده علم كل شيء، حتى الأمور الخمس التي لا يعلمها إلا الله فقال: فهو يقول: ((وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ))[الأنعام:50].
    وقال: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50] ولم يكتفِ بذلك بل أمر أن يقول: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[الكهف:110]، وقال لرجل رآه فهابه: {إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة} فهو صلى الله عليه وسلم ولد وعاش كما يعيش سائر الناس، وميزته إنما هي بالوحي، تلك الميزة العظيمة التي فضله بها ربه واصطفاه بها على العالمين.
    ووجه الاستدلال ما ذكره في قوله: [ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك، لادعيت فوق منزلتي ولست ممن يدعي ذلك] وخلصوا باستدلالهم هذا إلى أن الملك أفضل.
    [أجاب الآخرون أن الكفار كانوا قد قالوا: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] ] والمعنى: لو قلت: إن عندي خزائن الله، لادعيت غير حقيقتي، فأنا لست إلهاً ولا ملكاً، ولا نزاع في أنه ليس كذلك، وغاية ما في الأمر التفريق بين الحقيقتين، الحقيقة الملائكية والحقيقة البشرية، وعلى هذا فليس في الآية دليل على التفضيل.
    وليس نزاع المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم في أنه ليس فوق منزلته في الدنيا، بل هم يقولون: لو كنت نبياً ورسولاً، لكانت منزلتك أعلى من هذه المنزلة، ولكانت حقيقتك غير هذه الحقيقة، لكن أنت حقيقتك عادية، فأنت بشر مثلنا، فتعجبوا وقالوا: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] مثلنا، وقد قال من قبلنا: ((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ))[المؤمنون:47] وقالوا: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا))[إبراهيم:10]، ولهذا لن نؤمن، ولو كان من جنس أعلى منا ومن حقيقة أعلى؛ لآمنَّا به، أما وهو من جنسنا، ومثلنا ولا فضل له علينا، فلن نتبعه.
    [فأُمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم، أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب] وهو المشي في الأسواق للاكتساب [والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة].
  3. الاستدلال بحديث (المؤمن القوي...) على أفضلية الملائكة

    قال: [ومنه] أي: ومما يستدلون به على تفضيل الملائكة، على البشر [ما رواه مسلم بإسناده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير} ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها]، فأرادوا أن يجعلوا لفظة المؤمن عامة يدخل فيها البشر والملائكة. وهكذا وجهوا الدليل، فالمؤمن القوي من البشر خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف من البشر، وهكذا الملك أقوى من البشر فهو خير وأحب، هكذا أرادوا أن يفسروا الحديث ليدل على قولهم، فقالوا: [ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها] وأين قوة البشر من قوة الملك؟ إذاً فتفضيل المؤمن القوي يقتضي تفضيل الملائكة على صالحي البشر؛ لأنهم لا يدانونهم في القوة مطلقاً، ويدخل في ذلك قوة الإيمان، لكن المقصود بالقوة أولاً قوة الخَلْق.
    [قال الآخرون: الظاهر أن المراد المؤمن من البشر -والله أعلم- فلا تدخل الملائكة في هذا العموم] أي: فقوله صلى الله عليه وسلم: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف} لا يدخل فيه الملائكة، وإنما هو خاص بالبشر، أما بالنسبة للملائكة، فلو كان الأمر خاصاً بالملائكة لكان ذلك من باب الإخبار المجرد، وهو أن الملائكة الأقوياء خير من الملائكة الضعفاء، وهذا مجرد لا فائدة منه، لكن عندما يكون كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بني آدم ففيه طلب وهو يُعد باعثاً للمؤمن لأن يكون قوياً في إيمانه وعمله، وأن يبذل جهده في مرضاة الله، وعليه فالحديث -حقيقة- جاء بصيغة الخبر والمقصود منه الطلب، فهو إنشاء جاء في صيغة الخبر، والإنشاء هنا هو الطلب، والطلب لا يخاطب به إلا من هو مكلف مأمور بالعبادة، وهذا يختص بالبشر، ولا يدخل فيه الملائكة.
  4. حديث: (ذكرته في ملأ خير منهم)

    قال: [ومنه] أي: من الأدلة التي استدل بها من يفضل الملائكة على البشر: [ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: {يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} الحديث. وهذا نص في الأفضلية] أي: أن الملأ الأعلى خير وأفضل، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذا الحديث القدسي وهو من أعظم أحاديث الرجاء -رجاء السنة لا رجاء البدعة- : {أنا عند ظن عبدي بي} أي فعليه أن يظن به خيراً، وقد غلط فيه كثير من الناس، والمعنى الحق أن شأنه تبارك وتعالى وأمره دائر بين العدل والفضل، فإن أعطى وأثاب ففضل منه تعالى، وإن هدى ووفق إلى الصواب ففضل منه تعالى، وإن خذل وحرم وعاقب فعدل منه سبحانه، وقد جاء في الحديث القدسي: {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} وكتب على نفسه الرحمة سبحانه وتعالى، وكتب في كتاب -فهو عنده فوق العرش- {إن رحمتي سبقت، وفي رواية: غلبت غضبي} فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، واجتهد في الطاعات، وأكثر من الأعمال الصالحات، وظن به خيراً فإنه لن يُخيب من قصده وطلبه، ومن أخلص له، وأناب إليه.
    يقول: {وأنا معه إذا ذكرني} يعني: ما دام على حال الذكر، فاجعل ذكر الله تعالى زادك الدائم، واجعل لسانك رطباً بذكر الله سبحانه وتعالى، وقد يوافق القلب اللسان في الذكر، وقد ينفرد اللسان، وأفضله ما واطأ فيه القلب اللسان، والذكر عام يشمل التسبيح والتهليل والتحميد، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وغير ذلك.
    يقول: {وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} وهذا من أعظم الفضل والبشرى للذاكرين؛ أن يذكرهم الله تعالى، ولذلك فالمؤمنون الذين أحبوا الله وعرفوا حقيقة محبته سبحانه وتعالى، لا يرضون بها بدلاً، ولا يستبدلون بها مالاً ولا زوجة ولا أهلاً ولا شيئاً من الدنيا أبداً؛ لأنهم عرفوا محبة الله وأحبوه؛ فتعلقت قلوبهم بالله سبحانه وتعالى.
    قوله: {وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خير منهم} هذا نص في أن الملأ الأعلى خير من الأسفل، فإنك إذا تصورت أي مجلس في الدنيا ذكر الله تعالى فيه، فالملأ الأعلى خير منه، إذاً فالملائكة خير من بين آدم، ومعنى أن هذا نص: أنه لا يحتمل معنى آخر.
    قال: "قال الآخرون: يحتمل أن يكون المراد خيراً منه للمذكور لا الخيرية المطلقة"، أي فالمعنى: وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم للمذكور، وقد يقال: هذا تأويل، وقوله: "لا الخيرية المطلقة" والعبارة فيها نوع غموض، وشيخ الإسلام رحمه الله وضحها بشكل آخر (ج4 ص390) فقال: "وهو أجود وأقوى ما احتجوا به" أي: المفضلون للملائكة، لكن ليس قاطعاً، وليس نصاً في محل النزاع، فيحتمل المراد أن يكون المراد: خيراً من المذكور يعنى أن الحديث فيه بيان ما أعد الله سبحانه وتعالى للعبد إذا ذكره واتقاه، فالمنفعة في حصول الثواب واقعة، وهي أنك إن ذكرت الله في ملأ ذكرك في ملأ خير منهم، فهؤلاء الناس إذا ذكروا الله في ملأٍ استفادوا، وهذه الفائدة يعود نفعها عليك في الدنيا، والمنفعة في الملأ الأعلى أكثر؛ لأنهم يستغفرون للذين آمنوا، ويدعون لهم، وإذا أحب الملأ الأعلى عبداً فهو أفضل ممن يحبه الملأ الأدنى، قالوا: وهذا منظور إليه من جانب النفع.
    ونحن على الجواب الذي ذكره شيخ الإسلام : وهو أن الأفضلية كائنة باعتبار الكمال والمآل، وعليه فالأفضل في الدنيا هم الملائكة، فأيُّ عبد ذكر الله تعالى في ملأٍ في الدنيا فالملأ الأعلى خير منهم، لكن بعد أن يدخلوا الجنة، ويتمتعوا بالنظر إلى وجه الله الكريم، وحينها يكون صالحو البشر خيراً من الملائكة، ولا يرد الاعتراض؛ لأن الكلام مخصوص بحال الدنيا، وفي حال التكليف في دار الابتلاء، أما هناك -في دار القرار- فيكونون أفضل من الملائكة، فالحديث لا يدل على الأفضلية المؤبدة؛ لأنه خاص بحال الذكر، وحال التكليف، وهو في دار الدنيا لا الآخرة، وبهذا نكون قد أتينا على أقوى وأجود ما احتجوا به، فبيّنا أنه لا ينافي ما رجحناه.
  5. قول النبي عن جبريل: (فعرفت فضل علمه بالله علي)

    قال: [ومنه ما رواه إمام الأئمة محمد بن خزيمة بسنده في كتاب التوحيد، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بينا أنا جالس إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفيّ، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير، فقعد في إحداهما وقعدت في الأخرى، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أُقلب بصري، ولو شئت أن أمس السماء مسست، فنظرت إلى جبريل كأنه حلس لاطئ، فعرفت فضل علمه بالله عليَّ}] وتكملته: {وفتح لي بابان من أبواب الجنة، ورأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت، فأوحى إليّ ما شاء أن يوحي...} إلى آخر الحديث، وهذا الحديث تقدم ذكره عند ذكر الإسراء والمعراج، واحتجوا على أن الملائكة أفضل، بقوله: {فعرفت فضل علمه بالله علي}.
    [قال الآخرون: في سنده مقال، فلا نُسلِّم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته] ذكرنا أن الحديث قد تقدم، وتقدم أن ذكرنا قاعدة عامة ترد كثيراً من الأحاديث الضعيفة في باب الإسراء والمعراج، وهي كثيرة جداً، فيقال: هل كان الإسراء والمعراج مرة أو مرتين؟
    الحادثة كانت مرة واحدة -قطعاً-، ومن أراد الجمع بين الأحاديث بحملها على تكرر الإسراء والمعراج، فهذا غير صحيح، فإذا ثبت أنه مرة واحدة فبناءً عليه نأخذ أصح الروايات الثابتة ونجعلها معياراً لرد ما عداها ونجمع بينها، ثم نجعلها أصلاً يرد به ما عداها.
    فالحديث ليس ضعيفاً من سنده فقط، بل لا يحتج به من حيث المتن نفسه؛ لأنه خالف الأحاديث الصحيحة؛ ولأن هذا الحديث ليس فيه ذكر البراق مثلاً، وليس فيه الصلاة في بيت المقدس، فهذا الحديث لا يصح: لا متنه ولا سنده، بل هو ضعيف من حيث السند، ومنكر من حيث المتن.